بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 22 يناير 2010

شكرا لدكتورغازي بيشه لهذه الاضاءة.






لفائف البحر الميت المسروقة والحس الوطني الضائع


د. غازي بيشه


أثارت الملاحظات التي أبداها الدكتور محمد أبورمان في مقالته القصيرة "لفائف البحر الميت المسروقة والحس الوطني الضائع" (الغد 4/1/2010 )http://www.alghad.com/index.php?article=15865 بعض التساؤلات ولمّحت الى وجود تهاون كبير في حماية آثارنا والاهتمام بها. وانا اذ أوافق الدكتور أبورمان في العديد من ملاحظاته، أرجو بدوري ان أدلي بدلوي لطرح بعض التساؤلات وتوضيح بعض الإشكالات مبتدئا باعطاء لمحة عن مخططات البحر الميت.
1- تعتبر مخطوطات البحر الميت من أهم اكتشافات القرن العشرين. وهي تتألف من ثمانمائة وثيقة (بعضها كاملة او شبه كاملة) ولكن أغلبها عبارة عن اجزاء او نتافات يقرب عددها من مائة الف قطعة. كُتبت معظم هذه المخطوطات على الرق وبعضها على ورق البردي بالعبرية والآرامية والقليل منها باليونانية. وهي تشتمل على كل او أجزاء قصيرة من اسفار التوراة باستثناء سفر إستر، بالاضافة الى كتابات غير واردة بالتوراة. اكتشفت هذه المخطوطات وجمعت في السنوات 1947 - 1957. وفي بداية عام 1953 دفعت دائرة الآثار الاردنية مبلغ 15,000 دينار لشراء ما يقرب من 15,000 قطعة، وفي السنة التالية دفعت الدائرة مبلغ 14,000 دينار لشراء نتف اخرى وجدت في الكهف رقم "11" الذي يطل على خربة قمران. لا شك ان هذه المبالغ تعتبر طائلة بالنسبة لذلك الوقت. كذلك قامت دائرة الآثار الاردنية بتعيين لجنة دولية ضمت ثمانية باحثين من اقطار مختلفة (بريطانيا، فرنسا، المانيا، الولايات المتحدة وبولندا) على رأسها الاب الدومينيكي رولاند ديفو، وعهدت اليهم بمهمة قراءة وترجمة وتفسير المخطوطات، وخصصت لهم قاعة مناسبة في متحف الآثار الفلسطيني (متحف روكفلر) بالقدس حيث حفظت المخطوطات. في عام 1966 قامت الحكومة الاردنية بتأميم متحف الاثار الفلسطيني وعهدت إدارته الى جهاز فني اردني. وبعد مرور اقل من عام قامت اسرائيل باحتلال القدس ووضعت يدها على المتحف ومحتوياته بما فيها مخطوطات البحر الميت التي نقلت الى مخزن المتحف.
2- إن اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية في حالة نشوب نزاع مسلح (1954)، واتفاقية اليونسكو بشأن التدابير الواجب اتخاذها لحظر ومنع استيراد وتصدير ونقل الممتلكات الثقافية بطرق غير مشروعة (1970) ثم اتفاقية المعهد الدولي لتوحيد القانون الخاص (يونيدروا) بشان الممتلكات الثقافية المسروقة او المصدرة بطرق غير مشروعة (روما 1995) كلها تمنع الدولة التي تحتل بقوة السلاح دولة اخرى من حيازة وامتلاك الممتلكات الثقافية للدولة المحتلة.
وهذا ما بيّنه بوضوح الاستاذ البريطاني جون اليغرو (احد اعضاء اللجنة الدولية لدراسة المخطوطات) في إحدى رسائله حين ذكر ان وجود المخطوطات في المتحف الفلسطيني لا يخول اسرائيل امتلاكها او وضع اليد عليها. وان الممتلكات الثقافية في الاراضي التي احتلت بالقوة تبقى ملكا للمالك الاصلي. وربما هذا ما حدا باسرائيل الى الاحتفاظ بالمخطوطات في مخزن متحف روكفلر (كما يعرف الآن) بدلا من نقلها الى المتحف المهيب الذي شيد خصيصا في القدس الغربية لعرض المخطوطات التي اشترتها اسرائيل ( خاصة سيكينك وابنه ييغال يادين) في نهاية الاربعينيات وبداية الخمسينيات من القرن الماضي.
ان قضية مخطوطات البحر الميت - مثل قضية القدس والاراضي المحتلة - لا تكمن فقط في الجانبين الاخلاقي والقانوني، بل ايضا في الوضع السياسي الذي يزداد تعقيدا سنة بعد سنة اخرى. هذا يتبادر الى ذهني سؤال يؤرقني "ماذا لو بادرت السلطة الفلسطينية الحالية الى المطالبة باستعادة هذه المخطوطات باعتبار انها وجدت في منطقة المفروض انها حاليا من اراضيها؟ ما هو الحل القانوني في هذه الحالة؟ سؤال مشروع لا اعرف الاجابة عنه.
3- يتساءل الدكتور ابو رمان لماذا لا تطالب الجهات المسؤولة هنا باسترجاع بعض القطع الاثرية المهمة كمسلة الملك المؤابي ميشع المعروضة في اللوفر بباريس، وواجهة قصر المشتى بمتحف برغامون ببرلين. وانا بدوري اتساءل لماذا لا تطالب مصر وسورية والعراق وتركيا واليونان باستعادة قطعها وروائعها الاثرية التي تكتظ بها المتاحف الاوروبية والاميركية والروسية؟ صحيح ان الدكتور زاهي حواس - الامين العام للمجلس الاعلى للآثار بمصر- تمكن من استعادة بعض القطع، أعتقد انها اجزاء صغيرة من رسومات جدارية، من اللوفر لانها كانت قد سرقت وبيعت في السنتين الماضيتين، ولكن هل يستطيع فعلا استعادة رأس الملكة نفرتيتي من متحف برلين؟ لقد قوبل طلبه بالرفض القاطع. ثم ما بالك بمئات بل آلاف التماثيل والنواويس والمنحوتات المصرية التي تزخر بها المتاحف الكبرى، والمسلات الفرعونية التي تزين ساحات باريس وروما؟ هل يمكن استعادتها وبالتالي إخواء المتاحف من محتوياتها؟ ثم لماذا باءت كل محاولات وزيرة الثقافة السابقة لليونان السيدة ميلينا ميركوري الممثلة الشهيرة بالفشل عندما حاولت استرجاع المنحوتات الرخامية التي كانت تزين واجهة وافاريز معبد البارثنون، المثل الاعلى للفن اليوناني الكلاسيكي. ان كل القطع الاثرية المهمة التي نقلت من اماكنها الاصلية قبل عام 1970 لا يمكن المطالبة بها او استعادتها حتى لو خرجت بطرق ملتوية. وهذا ينطبق على الواجهة الحجرية المزخرفة لقصر المشتى التي أهديت الى الامبراطور الالماني فلهلم من قبل السلطان العثماني عبد الحميد الثاني في نهاية القرن التاسع عشر، فتم شحنها الى حيفا فبيروت ثم الى هامبورغ لتنتهي الى برلين. وبعد شحنها بسنوات قليلة بوشر في بناء الخط الحديدي الحجازي واستعملت حجارة القصر في تشييد محطة زيزياء (التي تعرف الآن بالجيزة).
اما مسلة ميشع فترتبط بها قصة محزنة - مضحكة. فبعد اكتشافها في عام 1868 عرض على سكان قرية ذيبان مبلغ 60 جنيها لشراء المسلة، ولكن الخلاف ما لبث ان دب بينهم حول كيفية توزيع المبلغ فعمدوا الى وضع المسلة التي هي من حجر البازلت الصلب فوق كتلة من النيران وبعدها صب الماء البارد على المسلة ما ادى الى تفتتها لقطع صغيرة.
لحسن الحظ ان المستشرق الفرنسي كليرمونت جانو - احد العاملين في القنصلية الفرنسية بالقدس - كان قد نسخ الكتابة المنقوشة على المسلة وعمل طبعة بدائية عنها ما مكن الباحثين من تكملة الاجزاء المفقودة من الكتابة والتي تشكل ثلث مساحة المسلة، بعدها تم جمع قطع المسلة المتبقية ولصقها الى بعضها بعضا قبل شحنها الى اللوفر. ألسنا مدعوين والحال كذلك الى شكر الذين بذلوا جهدا مميزا لحفظ هذا المعلم الفريد والمهم الذي يحتوي على اطول كتابة كنعانية معروفة في المنطقة؟
4- كذلك يلفت الدكتور محمد أبورمان الانتباه الى ان عددا محدودا جدا من الاردنيين عرفوا او سمعوا عن لفائف البحر الميت او حتى عن مسلة ميشع. هذه الملاحظة تدعو الى طرح بعض الاسئلة: من المسؤول عن ظاهرة غياب المعرفة؟ هل تقوم أية جامعة من جامعاتنا الاردنية بتدريس مساق واحد عن مخطوطات البحر الميت واهميتها؟ وما هي المساحة التي يحظى بها الانباط المعاصرين لمخطوطات البحر الميت في مناهجنا الدراسية للمراحل الاعدادية والثانوية؟
ان الحفاظ على التراث والموروث الثقافي مسؤولية مشتركة ولا يمكن ان تقتصر على جهة رسمية واحدة. وهو يتطلب قبل اي شيء نشر الوعي بأهمية التراث وضرورة المحافظة عليه لانه ملك للانسان وليس لإنسان كما قال جلالة الملك الحسين، طيب الله ثراه.
د. غازي بيشه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق